القائمة الرئيسية

الصفحات

د. صفاء سعد تكتب: أسرار نفسية.. السر الأول "حصن ملعبك العقلي"



جزء مهم من النضوج والاستقلالية أن تبني حدودًا في التعامل مع الآخرين، فمن يعيش بلا حدود يظل كالأرض المستباحة، ممزقًا بلا سيادة ولا احترام. إن تعلمت أن تصنع هذه الحدود وتحرسها كما تحرس الدول حدودها، فقد ملكت نصف قوتك الداخلية.


وللحدود وجوه متعددة؛ منها ما يخص الفكر والعقل، ومنها ما يتصل بالمشاعر، وأخرى تتعلق بالجسد، وأوقاتنا، وصلاتنا بالناس، وحتى شكل علاقاتنا الشخصية. غير أنني هنا اخترت أن أبدأ بحدود الفكر، فهي الجدار الأول الذي يحميك من ذوبان هويتك وسط ضجيج الآخرين.


أن تسمح لنفسك أن تفكر بحرية، أن تعتنق رأيًا مختلفًا عن رأي من حولك دون أن تساورك الرهبة، أن تقول: لا بأس إن لم نتفق، أحترم وجهة نظرك حتى وإن لم أتبعها، أسمعك جيدًا، ولكن قد يكون علينا أن نكتفي بالاختلاف دون صراع. لا أحد يملك أن يقنع الآخر بأنه وحده على صواب، فما أكثر الطرق وما أوسع الرؤى، ولا بأس إن افترقت العقول في الرأي ما دام الاحترام قائمًا.


هذا التعدد في الزوايا، وهذا التباين في العقول، إنما هو أمر طبيعي وضروري للحياة، وبه تتشكل الألوان المختلفة للصورة الكاملة. لكن الحذر واجب، فحين تغيب الحدود تصبح أفكارك ومشاعرك ساحة مفتوحة لكل من يقترب. تبدأ القصة بكلمة صغيرة من صديق يصف الجو بالحرارة الشديدة، فتتأثر رؤيتك حتى وإن لم تكن تشعر بها، فإذا وافقته الرأي دون وعي، تكون قد سمحت له أن يخترقك ليجعلك ترى الأشياء من منظوره هو لا من منظورك أنت. لذلك لا تجعل الآخرين يقودون أفكارك أو يوجهون مشاعرك.


كثيرًا ما ننتظر كلمة تقدير من الآخرين لنشعر بقيمة ذواتنا: "أنت ناجح"، "أنت طيب"، "أنت شجاع". ورغم جمال هذا الأمر وضرورته، إلا أن الأجمل أن يكون تقديرك لذاتك نابعًا منك، غير مرهون بانتظار إطراء قد يطول أو قد لا يأتي أبدًا. إنك تملك ما يكفي من مقومات وقدرات، وفيك من الثقة ما يجعلك تشجع نفسك وتكافئها قبل أن يمدحك أحد.


انتبه أيضًا، فالأصدقاء قد يتسللون من ثغرة هذه الحدود ليبثوا رسائل محبطة: "أنت ضعيف"، "لست أهلًا"، "لن تستطيع". كلمات صغيرة لكنها كفيلة بأن تبرمج عقلك على الفشل، وتغرس داخلك شعورًا بالعجز إن تركتها تمر دون وعي.


وفي زمننا هذا، تكاد وسائل التواصل الاجتماعي تكون أخطر أبواب الاختراق، فما نراه من صور وفيديوهات يتسلل إلى وعينا حتى وإن اعترضنا في البداية. إعلان ترفض محتواه اليوم، قد تراه بعد أيام مألوفًا، وقد تدندن بأغنيته وكأنها صارت جزءًا منك. الأمر ليس صدفة، بل هو أثر التكرار وبرمجة العقل.


انتبه إذن… فالعقل إذا تُرك بلا حدود، صار ملعبًا مفتوحًا لكل من أراد أن يزرع فيه ما يشاء.

دكتورة صفاء سعد دكتوراة فى علم النفس

تعليقات

أسس شركتك في الإمارات.. إقامة مجانية مع رخصة تجارية في الإمارات.. تعرف على التفاصيل وابدأ مشروعك