U3F1ZWV6ZTEzNjM0ODAyMTA5OTkwX0ZyZWU4NjAyMDEyMTgzODkw

الهوة بين الطموح والإمكان: كيف تُردَم؟



بقلم: شحاتة زكريا

لا توجد دولة أو أمة أو حتى فرد إلا ويحمل في داخله قدرا من الطموح يدفعه إلى أن يرى ما يمكن أن يكون لا ما هو كائن فقط. الطموح هو الشرارة الأولى لكل حركة وهو الطاقة التي تُشعل رغبة العبور من الحاضر إلى المستقبل. لكنه يظل في المقابل معلقا في الهواء إذا لم يجد أرضا يقف عليها. هنا تظهر الهوة بين الطموح والإمكان تلك المسافة الصامتة التي تفصل بين الأحلام وما يمكن فعله بين الرؤية والقدرة بين ما نريده وما نستطيع تحقيقه. وفي هذه الهوة تُختبر الأمم والشعوب ويُعرف معدنها الحقيقي.


قد يكون الطموح واسعًا لدرجة تُبهر أصحابها وقد تكون الإمكانات محدودة لدرجة تُصيب البعض بالإحباط. لكن الدول الحرة القوية هي التي تمتلك القدرة على إدارة هذه المعادلة لا أن تهرب منها. فليس من الحكمة أن نُصغّر طموحاتنا لنلائم ضعف الإمكانات ولا أن نرفع أحلامنا إلى السقف من دون حساب. الحكمة في القدرة على ملء الفراغ بينهما بأن نوسع الإمكان ونُهذب الطموح في آن واحد. وهذه هي معركة مصر اليوم؛ ليست معركة أحلام أكبر من الواقع ولا معركة واقع ضيق يمنع الحلم من التمدد بل معركة ردم الفجوة بين ما نستحقه وما نقدر عليه.


الذين ينظرون إلى ما حدث في مصر خلال السنوات الماضية يدركون أن الطموح كان أكبر من الموارد وأن الإرادة كانت أقوى من الظروف. حين قررت الدولة أن تبني بلدا جديدا فوق البلد القديم لم يكن في الخزائن ما يسمح بمشروعات بهذا الحجم ولا في الواقع ما يضمن نجاحها لكن الرغبة في الخروج من دائرة التراجع كانت أقوى من كل الحسابات التقليدية. بدا الأمر مغامرة للبعض لكنه في الحقيقة كان بداية ردم الهوة بين ما نتطلع إليه وما نمتلكه.


الهوة بين الطموح والإمكان ليست مشكلة مصر وحدها بل هي معادلة إنسانية. كل مجتمع يريد أن ينهض يجد نفسه أمام هذا التحدي. والسؤال الذي يحدد مصير الأمم ليس حجم الهوة بل كيفية التعامل معها. البعض يكتفي بوضع الطموح في خطابات واحتفالات ويترك الإمكان يجرّجر خطواته ببطء. والبعض الآخر يهرب من الطموح لأنه يحمّله مسؤولية، فيعيش في منطقة الراحة بلا تطور. أما الشعوب الحية، فهي التي تقف أمام المرآة بكل صدق ترى ضعفها وقوتها وتعرف أن العبور نحو المستقبل لا يتم بالنيات بل بالعمل ولا يتحقق بالشعارات بل بزيادة القدرة الفعلية على إنجاز ما يتمناه الناس.


في مصر اليوم تتقاطع هذه الأسئلة كلها. فالمواطن البسيط يطمح إلى حياة كريمة، وأجر يكفيه، وخدمات تليق به، ومستقبل آمن لأولاده. وهذه طموحات مشروعة لا خلاف عليها بل هي أساس أي دولة حديثة. وفي المقابل تواجه الدولة واقعًا معقدا: زيادة سكانية وتحديات اقتصادية عالمية وارتفاع كلفة التنمية وميراث طويل من تراكم المشكلات. لكن ما يميز اللحظة الحالية هو أن الدولة لم تعد تتعامل مع الإمكان بوصفه قدرا نهائيا ، بل باعتباره مادة قابلة للزيادة عبر العمل والإنتاج وإعادة ترتيب الأولويات.


إن ردم الهوة بين الطموح والإمكان يبدأ دائما من الوعي. الوعي بأن الطموح لا قيمة له إذا لم يصاحبه جهد وأن الإمكان لا يرتفع من تلقاء نفسه إذا لم تُستثمر كل نقطة قوة. الوعي بأن الطريق إلى المستقبل لا يُفتح بقرار واحد بل بسلسلة خطوات متتابعة بعضها صعب بعضها مؤلم بعضها يحتاج وقتا لكن نتيجتها النهائية تُبنى بالثبات والإصرار. وهذا النوع من الوعي بدأ يترسخ بشكل واضح في حياة المصريين. فهناك إدراك متزايد بأن الدولة لا تبني لنفسها بل تبني لناسها وأن الإنجازات ليست جدرانا وأسفلتا فقط بل بناء وعي جديد لدى مجتمع يتعلم كيف يواجه تحدياته بجدية ومسؤولية.


ولعل أجمل ما في هذه المرحلة أن المواطن بدأ يرى بنفسه آثار العمل. لم يعد التغيير كلاما يُقال بل واقعا يلمسه: طرق تغير وجه الأقاليم ربط جديد بين المحافظات والموانئ محطات كهرباء وطاقة تُحرك الصناعة مدن جديدة تخلق فرصا شبكات حماية اجتماعية تخفف من آثار الأزمات ومشروعات في الطاقة تعيد لمصر مكانتها الإقليمية. هذه الإنجازات ليست ترفا ، بل هي أدوات عملية لردم الهوة بين ما نريده وما نقدر عليه.


لكن الطريق ما زال طويلا. الهوة لن تُردم في يوم ولا في سنة، ولا بقرار واحد. بل تُردم بالاستمرار في العمل وبالثقة في القدرة على تغيير الواقع مهما كانت العقبات. وما يعزز هذه الثقة أن الشعب المصري يمتلك طاقة هائلة حين يُستفَز خيره وحين يشعر أن ما يُبنى يُبنى لأجله. المصري بطبيعته لا يطلب المستحيل لكنه يطلب الوضوح ويستجيب لمن يعمل بجد ويصبر حين يرى الطريق ويتحمل فقط حين يشعر أن للدولة قلبا وعقلا يعملان معًا.


إن ردم الهوة بين الطموح والإمكان ليس فقط مهمة الدولة بل مهمة المجتمع كله. هي مسؤولية الفرد الذي يسعى لتطوير نفسه والأسرة التي تُربي أبناءها على العمل لا على الشكوى والمدرسة التي تغرس الانضباط قبل المنهج والإعلام الذي يصنع وعيا لا ضجيجا ورجال الأعمال الذين يدركون أن الاستثمار الحقيقي هو الذي يبني بلدا لا مجرد رصيد. وكلما اتسعت دائرة المشاركة ضاقت الهوة وتقدم المجتمع خطوة نحو ما يستحقه.


وفي النهاية يمكن القول إن الطموح هو روح الأمة والإمكان هو جسدها ولا تنهض الأمم بالروح وحدها ولا بالجسد وحده بل بتكاملهما. وما يحدث في مصر اليوم هو محاولة جادة لهذه المزاوجة محاولة لبناء دولة تمتلك رؤية كبيرة وقدرة تتسع يومًا بعد يوم. الطريق طويل نعم والتحديات كثيرة نعم لكن الإصرار الذي يصنع المستقبل بدأ يأخذ مكانه والهوة التي كانت واسعة بدأت تضيق بالتدريج. ومتى تلاقت نقطة الطموح مع نقطة الإمكان ستولد اللحظة التي تتغير فيها معالم الدولة ويُكتب فيها مستقبل لا يقبل العودة إلى الوراء.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق







الاسمبريد إلكترونيرسالة