فن الهندسة السياسية من لوحة نارمر إلى الجمهورية الجديدة.. م/ أحمد محمد فكري زلط
على ضفاف النيل، حيث نشأت أول دولة مركزية في التاريخ، لم تكن إدارة الحكم مجرد ممارسة للسلطة، بل كانت دائمًا فنًا مقدسًا لبناء الأمة وصياغة مستقبلها. من الفراعنة الذين خططوا لدولة تدوم آلاف السنين، إلى محمد علي الذي نحت مصر الحديثة من رحم التحديات، وصولًا إلى اليوم، كانت مصر دائمًا مختبرًا عظيمًا لما نسميه اليوم “الهندسة السياسية”. إنه ليس مفهومًا غريبًا علينا، بل هو جزء من حمضنا النووي الحضاري .. القدرة على إعادة تشكيل الذات، وتصميم المؤسسات، ورسم خرائط المستقبل.
الهندسة السياسية، في جوهرها المصري، هي الإرادة الواعية للأمة في بناء دولتها. هي تحويل الحلم الوطني إلى خطة عمل، وترجمة تطلعات الملايين في “العيش والحرية والعدالة الاجتماعية” إلى هياكل ومؤسسات وقوانين. إنها العقل المنظم الذي يسعى لأن يجعل من الغد يومًا أفضل من الأمس.
إن قراءة تاريخنا بعين “الهندسة السياسية” تكشف عن عبقرية فريدة في بناء الدولة .. من لوح نارمر إلى حلم الجمهورية الجديدة نجد تجليات الهندسة المصرية
📌 الدولة الفرعونية.. هندسة الخلود: لم تكن الأهرامات مجرد مقابر، بل كانت رمزًا لدولة مركزية قوية، ذات نظام إداري وبيروقراطي معقد، وقادرة على حشد الموارد لتحقيق هدف قومي عظيم. كانت هندسة سياسية تهدف إلى الخلود، وقد نجحت.
📌 محمد علي.. نحّات الدولة الحديثة: عندما ورث محمد علي مصر ولاية عثمانية ضعيفة، لم يكتفِ بإدارة شؤونها. لقد قام بأكبر عملية هندسة سياسية في تاريخنا الحديث. فكك البنية القديمة، وبنى جيشًا وطنيًا، وأرسل البعثات، وأنشأ المصانع والمدارس، ورسم حدودًا جديدة للدولة. لقد كانت رؤية مهندس معماري يبني أمة من جديد.
📌 ثورة يوليو.. هندسة التحرر الوطني: كانت ثورة 1952 مشروعًا ضخمًا لإعادة هندسة المجتمع والدولة. من إلغاء الملكية وتأميم القناة إلى الإصلاح الزراعي، كانت كل خطوة تهدف إلى تفكيك بنية استعمارية ورأسمالية قديمة، وبناء جمهورية مستقلة ذات هوية عربية واضحة ومشروع تنموي اشتراكي.
📌 واليوم، وبعد ثورتين متتاليتين احداهما في يناير 2011 والاخري في يونيو 2013 تقف مصر على أعتاب مرحلة جديدة من هذه الهندسة .. فالمشروعات القومية العملاقة، من العاصمة الإدارية التي تعيد تعريف مركز الدولة، إلى شبكات البنية التحتية التي تربط شرايين الوطن، ليست مجرد مشاريع عمرانية. إنها أدوات في عملية هندسة سياسية واسعة تهدف إلى بناء “جمهورية جديدة” و دولة قوية، حديثة، وقادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
ومثل أي أداة قوية، تحمل (الهندسة السياسية) وجهين
وجه مضيء وآخر مظلم
🍀 الوجه المضيء ويتمثل في:
☘️ تحقيق الإرادة الوطنية وهي الأداة التي تمكّن الأمة من تحقيق أهدافها الكبرى، بدلاً من ترك مصيرها للصدفة أو الفوضى.
☘️ تسريع النهضة يسمح بحشد طاقات الدولة وتوجيهها نحو قفزات تنموية، كما فعلت دول مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية.
☘️ بناء دولة المؤسسات و تأسيس دولة قوية ومستقرة، قادرة على فرض القانون وتقديم الخدمات لمواطنيها بكفاء.
🛑 الوجه المظلم ويتمثل في :
⭕️ خطر النخبوية: عندما تتم هذه الهندسة بمعزل عن الشعب، قد تتحول إلى رؤية فوقية لا تعبر عن آمال الناس الحقيقية، وتصبح المؤسسات هياكل صماء بلا روح.
⭕️ شهوة السيطرة: قد تُستخدم الهندسة السياسية كغطاء لتركيز السلطة، وتصميم قوانين ومؤسسات تخدم أفراد بدلاً من خدمة الوطن.
⭕️ قتل الإبداع السياسي: التخطيط المفرط قد يقضي على الحيوية الطبيعية للمجتمع، ويحول السياسة إلى عملية إدارية جافة، ويُضعف الأحزاب والمجتمع المدني.
وهنا يمكننا القول بأن نجاح مشروع الهندسة السياسية في مصر اليوم لا يعتمد فقط على عبقرية التخطيط أو حجم الإنجازات المادية. بل يعتمد على تحقيق معادلة دقيقة وحساسة
وهي الموازنة بين “هيبة الدولة” و”حيوية المجتمع”.
فالدولة القوية التي نصبو إليها لا يمكن أن تُبنى على أنقاض مجتمع ضعيف أو مُقيّد. بل تُبنى على أكتاف مواطنين يشعرون بالانتماء والولاء والمشاركة. الهندسة السياسية الناجحة هي التي تبني الجسور لا الجدران .. جسور الثقة، وجسور المشاركة التي تسمح للمجتمع بأن يكون شريكًا أصيلاً في بناء مستقبله.
المشروع الوطني المصري اليوم يحتاج إلى أن تتسع دائرة الحوار لتشمل كل أطياف المجتمع. يحتاج إلى أن تكون “الهندسة التشريعية” ضامنة للحقوق والحريات بنفس قدر حرصها على الأمن والنظام. ويحتاج إلى أن تكون “الهندسة المؤسسية” سبيلًا لتمكين الكفاءات ومنع الفساد، لا أداة للسيطرة. ويحتاج الي "هندسة انتخابية” نزيهة وعادلة، تنتج برلمانًا قويًا ومتنوعًا يعكس حقيقة المجتمع، وهي صمام الأمان لأي مشروع وطني. فهو السلطة القادرة على مراقبة ومحاسبة الحكومة، وهو الجسر الذي يربط بين خطط الدولة الكبرى وحياة المواطن اليومية، ليضمن أن بناء الأمة يتم “باسم الشعب ولأجل الشعب”.
ولا يمكن لأي مشروع بناء وطني أن ينجح دون أن يكون #الشباب في قلبه. فهم ليسوا مجرد فئة ديموغرافية، بل هم طاقة الأمة المتجددة، ووقود طموحها، وضميرها الحي الذي يذكرها دائمًا بأحلام المستقبل. أي هندسة سياسية تتجاهل الشباب، أو تفشل في تمكينهم وإشراكهم، هي هندسة تبني على الرمال. إن تمكين الشباب سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا ليس ترفًا، بل هو شرط أساسي لاستدامة أي نهضة. هم القادرون على تطويع أدوات العصر، من التكنولوجيا إلى الأفكار الجديدة، لخدمة المشروع الوطني. وإذا كانت الهندسة السياسية هي “العقل المخطط” للدولة، فالشباب هم “القلب النابض” الذي يضخ فيها الحياة والأمل والقدرة على التجدد. إشراكهم في صنع القرار يضمن أن تكون الدولة التي نبنيها اليوم هي الدولة التي يريدون العيش فيها غدًا.
إنها لحظة تاريخية فارقة .. الرهان كبير، والمسؤولية تاريخية، والأمل يكمن في قدرتنا كأمة على أن نجعل من هذه الهندسة مشروعًا وطنيًا جامعًا، لا رؤية فردية قاصرة.
تعليقات
إرسال تعليق