النتروجين الأخضر: تغيير العالم يبدأ من فكرة.. بقلم/ د. عاصم صلاح الدين
النتروجين يملأ أنفاسنا دون أن نراه. 78% من الهواء حولنا يتكوّن من هذا العنصر الصامت، الذي ظل لعقود مجرّد ركن مألوف في الحياة. لكنه اليوم يخرج من خلف الستار، ليصبح مفتاحًا ثوريًا في التحوّل نحو طاقة نظيفة تعيد للأرض توازنها.
الفكرة العلمية بسيطة وجريئة: أن نستخدم المتاح من حولنا لخلق مستقبل أفضل. من خلال تقنيات صاعدة، يتم دمج النتروجين مع الهيدروجين الأخضر لإنتاج الأمونيا الخضراء، التي تُستخدم كوقود نظيف بلا انبعاثات تُثقل صدر الكوكب. إنه تحوّل يفتح بابًا واسعًا أمام الدول التي تمتلك موارد الطاقة النظيفة — ومن بينها مصر ودول منطقتنا — لتكون جزءًا فعالًا في اقتصاد المستقبل.
لكن خلف هذه الثورة الهادئة درس إنساني عميق.
تمامًا كحال النتروجين، كثير من البشر يملكون قيمة عظيمة، إلا أنها غير مرئية. طاقات كامنة، مواهب محبوسة في الظلال، وقدرة على الإبداع والتغيير تذبل تحت ضغوط الحياة والإحباط. الإنسان يتحوّل أحيانًا إلى عنصر مألوف لدرجة النسيان… ينسى نفسه قبل أن ينساه الآخرون.
التنمية البشرية لا تبدأ أعمالها من دورات تدريبية فاخرة أو موارد باهظة. تبدأ من فكرة. من اكتشاف ما نملكه بالفعل، واستثماره. عندما نتعلم شيئًا جديدًا، نطوّر مهارة، نهتم بصحتنا، أو نخوض تجربة لم نجرّبها من قبل… نحن نولّد "طاقة خضراء بشرية" تعيد شحن حياتنا، وتفتح نوافذ مستقبل لم يوجد بعد.
كل مرة نستثمر ما لدينا — أوقات فراغ قصيرة، قدرات بسيطة، علاقات طيبة، فضول لمعرفة المزيد — نحن نحاكي ما يفعله العلماء بالنتروجين: نكتشف قيمة المتاح ونحوّله لقوة تُغيّر الواقع.
ومثلما تحتاج عملية إنتاج "النتروجين الأخضر" إلى محفّز يسرّع التفاعل بكفاءة، تحتاج طاقاتنا الكامنة إلى محفّز نفسي، قد يكون قرارًا شجاعًا أو بيئة إيجابية، كي تتحوّل من احتمالات إلى إنجازات.
الدول التي تتبنّى تقنيات الطاقة النظيفة تتقدّم. وكذلك الأفراد الذين يؤمنون بأن أول خطوة، مهما بدت صغيرة، تستحق البدء. وعندما نضيء ذواتنا، لا ننتظر أن يحل الظلام لنشعل الشمعة… بل نصنع مصابيحنا وسط النهار استعدادًا لما هو آتٍ.
التغيير لا يأتي صاخبًا، بل يبدأ همسًا… بفكرة صغيرة في عقل شخص اختار ألّا يستسلم. ثم تُصبح تلك الفكرة شرارة تغيير، كما يُصبح النتروجين الأخضر اليوم شرارة تحول عالمي.
النتروجين الأخضر ليس مشروع طاقة فقط. إنه رسالة. فرصة لنعيد النظر إلى أنفسنا وقدراتنا. البيئة تبحث عن حلول، والمجتمعات تصنع أدوارًا جديدة، والبشر يملكون قدرة هائلة على التعلّم والتجدد. المسألة ليست انتظارًا… بل انطلاقًا.
اليوم، بينما يعيد العلم اكتشاف الهواء من حولنا، حان الوقت أن نعيد نحن اكتشاف الهواء داخل رئتينا: سر الحياة وقدرتها على الاستمرار والتغيير. ابدأ من فكرة… وسلّط عليها ضوء عزيمتك… فالمعجزة ليست في الموارد النادرة، بل في رؤية الاستثنائي في المألوف.
كل ما حولك مفعم بالإمكان. وكل ما يبدو عاديًا قد يخبّئ ثورة. كما يتحوّل الهواء إلى وقود نظيف، تستطيع أنت أن تتحوّل إلى طاقة تُحرّك نفسك والآخرين نحو غد أجمل. إنها فكرة… تكبر بإصرار… فتغيّر طاقتك، ومستقبلك، و عالمك.
تعليقات
إرسال تعليق